تكتب سمية الغنوشي هذا المقال عن والدها، راشد الغنوشي، البالغ من العمر 84 عامًا، الذي اختار الدخول في إضراب عن الطعام تضامنًا مع جوهر بن مبارك، أستاذ القانون الدستوري وأحد أبرز وجوه المعارضة ضد انقلاب الرئيس قيس سعيّد.
ينطلق السرد من قرار الغنوشي الإضراب، رغم هشاشة جسده وضعف صحته، كصرخة ضد القمع. بن مبارك كان قد وصل إلى مرحلة حرجة، يواجه الموت بينما يصر على الاحتجاج بجسده. ومع انضمام الغنوشي إليه، انتشر الإضراب داخل السجون التونسية، وصار لغة أخيرة لمن حُرموا الكلام السياسي.
تصف الكاتبة مشهدًا لبلاد تتهالك فيها المؤسسات، وتُعاد صياغة القوانين تحت سلطان رجل واحد منذ انقلاب 2021. وتكشف كيف تحولت تونس إلى مسرح بلا ممثلين سوى السلطة، بينما يحبس النظام عشرات السياسيين والقضاة والناشطين والطلبة والصحفيين.
إرثٌ لا يصدأ.. وأفكار تتنقّل خارج السور
تكشف سمية أن والدها ظل متمسكًا بفكرة واحدة طوال عقود: أن الإسلام والحرية لا يتناقضان. تقول إن والده يرى الاستبداد أخطر أمراض العالم العربي، المرض الذي يلتهم الكرامة ويحوّل المواطن إلى تابع.
ولدت تلك القناعة من سنوات السجن. في محبسه الأول بين 1981 و1984، ألّف الغنوشي كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، محاولًا التوفيق بين الوحي والعقل، والإيمان والديمقراطية.
بعد أربعين عامًا، يعبر الكتاب إلى نُسَخ إنجليزية تنشرها جامعة ييل، ليصل إلى قرّاء جدد. ترى الكاتبة أن أفكار والدها تواصل رحلتها، تُسافر حيث يعجز الجسد المقيّد، تتخطّى الجدران والأسوار.
وفي المنفى البريطاني، ازدهرت فلسفته عبر حوارات طويلة مع مفكرين عالميين، ما صاغ لغة سياسية جديدة للإسلام السياسي، قائمة على الحرية والمشاركة.
تُعيد الابنة التأكيد أن الديمقراطية ليست رفاهية غربية، بل ضرورة إنسانية تحفظ الكرامة، وأن الإسلام ليس نقيضًا لها بل حاملًا لمعناها.
جذور تمتد من الواحة إلى البرلمان
تحمل القصة جانبًا حميميًا حين تعود إلى أصول الغنوشي: طفلًا نشأ في واحة الحامة، يعمل في الأرض تحت شمس الجنوب، يتعلم الصبر وصلابة التراب واتساع الأفق. من تلك الأرض خرجت شخصيات صنعت تاريخ تونس: الطاهر الحداد، محمد علي الحامي، ومحمد الدغباجي الذي واجه المستعمر الفرنسي.
ومن هذا الإرث استمد الغنوشي طبعه: دماثة القلب، وصلابة الإرادة، وحياة مليئة بالحركة والعمل والكتابة. في السجن استعاد عادته في تحويل المحنة إلى إنتاج؛ حفظ القرآن كاملًا في الثمانينيات وألّف أبرز كتبه داخل الزنازين.
حين عادت تونس إلى الحياة السياسية بعد ثورة 2011، حاول الغنوشي أن يجمع بين مبدأ الحرية ومتطلبات بناء دولة ديمقراطية ناشئة. قاد حركة النهضة في أول انتخابات حرّة، وساهم في صياغة دستور 2014 الذي سعى لخلق توازن يمنع عودة الاستبداد.
وفي لحظات الأزمة الكبرى عام 2013، اختار التنازل عن السلطة حفاظًا على البلاد. ثم سعى لاحقًا إلى بناء توافق مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي حتى لا تغرق تونس في الاستقطاب.
ضربات الاستبداد.. وشقوق في جدار الظلام
مع صعود الثورة المضادة، صار الغنوشي هدفًا لحملة تشويه كثيفة غذّتها أنظمة إقليمية تخشى انتقال العدوى الديمقراطية. صُوّر الرجل على أنه رمز تطرف، بينما كان ينادي بحلول سياسية سلمية منذ عقود.
توضح الكاتبة أن قيس سعيّد صعد على “سُلّم الديمقراطية”، ثم أزاحه. أعاد تركيز السلطة في يده، حلّ البرلمان، ألغى الدستور، وفتح الباب لسلسلة من الاعتقالات الواسعة. وهكذا وجد والدها نفسه، وهو في الثمانينيات، واحدًا من أقدم السجناء السياسيين في العالم.
لكن الابنة تؤكد أن النظام الحالي هشّ، يتآكل من الداخل، وأن الليل السياسي لن يطول. ترى أن تونس أكبر من هذه الحقبة، وأن إرث الديمقراطية لا يموت، وأن أفكار الغنوشي ستبقى أطول عمرًا من السجن والاتهامات والطغيان.
وتختم باستدعاء كلمات والدها في محاكمته عام 1987، حين قال:
"إذا سُفك دمي، فإني أدعو الله أن يكون آخر دم يُراق في هذا البلد… وأن يتحول إلى وردة تتفتح منها الحرية".
تكتب سمية أن الدعاء ما زال يتردّد في الذاكرة التونسية، يتجاوز السجون، ويُقاوم القهر، وأن روح والدها ـ مهما اشتد القيد ـ لا يمكن إطفاؤها.
https://www.middleeasteye.net/opinion/rached-ghannouchi-my-fathers-ideas-will-outlive-shameful-era-tunisia

